مساحة بواسطة: محمد عبد الفتاح
    

حين يهرب منا ما نسعى إليه بشدة



تبدو معادلة الحياة للوهلة الأولى بسيطة ومنطقية؛ فنحن نعيش لكي نكون سعداء، وبالتالي يجب أن يكون "السعي للسعادة" هو هدفنا الأسمى ومحركنا اليومي. لكن الواقع النفسي والفلسفي يكشف لنا عن حقيقة صادمة تعرف بـ "مفارقة الهيدونية"، والتي تقول باختصار إن أفضل طريقة لتصبح تعيساً هي أن تحاول جاهداً وبشكل مباشر أن تكون سعيداً. إن التعامل مع السعادة كهدف يُخطط له ويلاحق، تماماً كما نلاحق المال أو النجاح المهني، هو الوصفة الأسرع للشعور بالإحباط، لأن هذه الملاحقة تحول انتباهنا من عيش التجربة بكل تفاصيلها إلى "مراقبة التجربة" وتقييمها، فبدلاً من الاستمتاع بلحظة جميلة مع صديق، ينشغل العقل بسؤال ملح: "هل أنا سعيد الآن بالقدر الكافي؟"، وهذه المراقبة المستمرة تخلق فجوة مؤلمة بين واقعنا وبين توقعاتنا المثالية، مما يقتل العفوية التي هي روح السعادة.

تاريخياً وفلسفياً، أدرك الحكماء هذه المعضلة مبكراً، فالطبيب النفسي فيكتور فرانكل، الذي اختبر أقسى درجات المعاناة البشرية، وصل إلى قناعة راسخة بأن السعادة لا يمكن أن تكون هدفاً بحد ذاتها، بل يجب أن تأتي كـ "نتاج ثانوي" غير مقصود. السعادة تشبه إلى حد كبير الفراشة؛ كلما طاردتها حاولت الهرب منك، ولكن إذا انشغلت بهدوء في زراعة حديقتك والاهتمام بأزهارك، فقد تأتي لتهبط بخفة على كتفك. إنها الأثر الجانبي للانخراط العميق في عمل ذي معنى، أو التضحية من أجل قضية، أو الحب الصادق لشخص آخر، فهي المكافأة التي تمنحها الحياة لمن نسوا أنفسهم في سبيل شيء أكبر منهم، وليست الغنيمة لمن يركض وراءها بأنانية.

وعند النظر إلى واقع جيلنا الحالي، نجد أننا وقعنا في فخ الخلط بين "المتعة" و"الرضا"، وهو خلط غذته ثقافة الاستهلاك ومنصات التواصل الاجتماعي التي تروج لحياة خالية من الشوائب. لقد أصبحنا مهووسين بالمتعة الفورية السهلة، تلك الدفقات السريعة من الدوبامين التي نحصل عليها من التسوق أو الطعام أو الإعجابات الرقمية، معتقدين أن تكديس هذه اللحظات سيصنع سعادة. هذا الهوس أفقدنا القدرة على تحمل الألم أو الملل، وجعلنا نعتقد أن أي شعور سلبي هو "عطل" يجب إصلاحه فوراً، متجاهلين حقيقة أن الرضا العميق والسعادة الحقيقية غالباً ما يكونان وليدي المعاناة والتحدي؛ ففرحة الوصول للقمة لا تكتمل إلا بألم التسلق، ولذة الإنجاز لا طعم لها دون مرارة التعب والسهر.

في النهاية، ربما علينا إعادة تعريف بوصلتنا الداخلية، والتوقف عن معاملة السعادة كوجهة نهائية يجب الوصول إليها، بل اعتبارها رفيق طريق يظهر ويختفي. إن الحياة المصممة هندسياً لتكون "سعيدة فقط" وخالية من التحديات هي حياة مملة وهشة، تنهار عند أول عاصفة. الحل يكمن في التصالح مع فكرة أن السعادة ليست واجباً يومياً، وأن الألم جزء أصيل من التجربة البشرية، وأننا حين نكف عن سؤال "كيف أكون سعيداً؟" ونستبدله بسؤال "كيف يكون لحياتي معنى؟"، فإننا بذلك نفتح الباب للسعادة لتتسلل إلينا من حيث لا نحتسب، كضيف خفيف الظل يزورنا حين نكون مشغولين بصناعة الحياة.
أحدث أقدم