مساحة بواسطة: محمد عبد الفتاح
    

جدلية الرغبة والحاجة: من الضرورة البيولوجية إلى الإنتاج الإبداعي



تعد العلاقة بين الرغبة والحاجة من الإشكاليات الفلسفية والأنثروبولوجية العميقة التي حاولت تفسير السلوك البشري وفهم دوافعه الأساسية، فبينما تبدو الحاجة مرتبطة بالضرورة البيولوجية والبقاء، تظهر الرغبة كفضاء معقد يتداخل فيه النفسي، والاجتماعي، والإبداعي، مما يخلق جدلية مستمرة بين ما هو فطري وما هو مكتسب.

وفي سياق التحليل النفسي، تذهب ميلاني كلاين إلى التأكيد على أن الحاجة البيولوجية لدى الإنسان لا تظل حبيسة إطارها المادي الصرف، بل تتحول تدريجياً إلى رغبة نفسية لاشعورية. فالطفل في مراحله الأولى لا يطلب الغذاء كحاجة عضوية فحسب، بل يحول هذا الطلب إلى رغبة في التواصل مع "الموضوع" (الأم)، وهو ما يؤثر بشكل جوهري على تشكيل بنية شخصيته وتفاعلاته العاطفية اللاحقة، حيث تصبح الرغبة هنا امتداداً نفسياً للحاجة ولكن بطابع رمزي ولاشعوري.

أما من زاوية أنثروبولوجية، فإن رالف لينتون يرى أن الرغبة ليست اندفاعاً ذاتياً معزولاً، بل هي نتاج لنسق ثقافي متكامل. فالثقافة هي التي تتولى مهمة تحديد رغبات الفرد وتوجيهها بما يتناسب مع المعايير والقيم السائدة في المجتمع الذي ينتمي إليه. وبذلك، تصبح الرغبة وفق هذه المقاربة هي القالب الاجتماعي الذي تصب فيه الحاجات البيولوجية؛ فالإنسان لا يرغب في إشباع جوعه بأي وسيلة، بل يتبع طقوساً وأشكالاً تحددها الثقافة، مما يجعل الرغبة أداة للاندماج الاجتماعي والامتثال لمبادئ الجماعة.

وعلى نقيض التصورات التي تربط الرغبة بالنقص أو الحاجة، يقدم جيل دولوز رؤية ثورية ترى أن الرغبة ليست بحثاً عن شيء مفقود، بل هي قوة إنتاجية وإبداعية بحد ذاتها. فبالنسبة لدولوز، الرغبة لا تعني "الحاجة إلى شيء"، بل هي "إنتاج للواقع"؛ إنها الآلة التي تخلق موضوعها وتبدع عوالم جديدة. فالرغبة هنا تنفصل عن منطق الاستهلاك المرتبط بالحاجة لتصبح طاقة فاعلة تشكل الواقع وتغير ملامحه، مما ينقلها من دائرة الانفعال إلى دائرة الفعل والابتكار.

بناءً على هذه المقاربات المتباينة، يمكن استنتاج أن العلاقة بين الرغبة والحاجة تتسم بطابع مزدوج يجمع بين التناقض والتكامل. فهي من جهة علاقة اتصال واستمرارية، حيث تنبثق الرغبة من رحم الحاجة وتتغذى عليها، وهي من جهة ثانية علاقة انفصال وقطيعة، حين تتحرر الرغبة من ضغوط الضرورة البيولوجية والقيود الثقافية لتتحول إلى قوة إبداعية خالصة تعيد صياغة الوجود الإنساني وتمنحه أبعاداً تتجاوز مجرد البقاء المادي.
أحدث أقدم