مساحة بواسطة: محمد عبد الفتاح
    

فلسفة الانتظار




نحن لا نعيش اللحظة كما نحب أن نعتقد، بل نقيم فيها إقامة عابرة، كأنها محطة قطار لا نضع فيها حقائبنا. عيوننا دائمًا معلّقة بشيء قادم: شهادة لم تُسلَّم بعد، وظيفة لم تُوقَّع عقودها، حبّ لم يصل، أو نسخة "أفضل" من أنفسنا نعدها بأن نلتقي بها لاحقًا. هكذا يتحوّل الحاضر إلى ممر ضيق، والمستقبل إلى بيت نسكنه بالخيال أكثر مما نسكن الواقع.

الانتظار ليس حدثًا طارئًا في حياتنا، بل بنيتها العميقة. منذ الطفولة ونحن نُدرَّب عليه: "اصبر تكبر"، "استنى لما تفهم"، "بكرة أحسن". وكأن الحياة وعد مؤجل باستمرار، وكأن المعنى الحقيقي دائمًا بعد خطوة أخرى، لا هنا.

هل الانتظار تضييع للحياة أم جوهرها؟

في الظاهر، يبدو الانتظار شكلًا من أشكال التعليق الوجودي: زمن بلا فعل، حياة في وضع الاستعداد. سارتر قد يرى فيه تهرّبًا من الحرية، لأننا نؤجل القرار ونُحمّل المستقبل مسؤولية ما لا نجرؤ على مواجهته الآن. ننتظر النجاح بدل أن نتحمّل فشل المحاولة، وننتظر الحب بدل أن نخاطر بالوحدة.

لكن من زاوية أخرى، الانتظار ليس فراغًا، بل امتلاء خفي. كيركغارد يرى أن الترقب ذاته تجربة وجودية كثيفة، لأن الإنسان لا يعيش إلا متجهًا نحو شيء. حتى الأمل، وهو أرقّ أشكال الانتظار، يمنح الحياة توترها ومعناها. بدون انتظار، تصبح الأيام مسطّحة، بلا اتجاه، بلا سهم يشير إلى الأمام.

المشكلة ليست في الانتظار ذاته، بل في نوعه:
انتظار يُجمّدنا ويجعلنا رهائن لما لم يحدث.
وانتظار يُنضجنا، يربّي فينا الصبر، ويحوّل الزمن إلى حليف لا إلى عدو.

العيش في المستقبل: هروب أم ضرورة؟

حين نعيش دائمًا في "ما سيكون"، نفقد القدرة على لمس "ما هو كائن". نصبح غرباء عن أجسادنا، عن لحظاتنا الصغيرة، عن تفاصيل اليوم العادي. كأننا نعيش حياة مسوّدة، ونؤجل النسخة النهائية إلى إشعار آخر.

الفلاسفة الرواقيون حذّروا من هذا الفخ مبكرًا: المستقبل ليس ملكنا، وحتى اللحظة التالية قد لا تأتي. ومع ذلك، الإنسان لا يستطيع التخلّي تمامًا عن التطلع. التطلع هو ما يميّز الإنسان عن الكائن الغارق في اللحظة فقط. نحن الكائن الذي يعرف أن الغد موجود، حتى لو لم يأتِ.

إذاً نحن محكومون بالتوازن المستحيل:
أن نعيش الآن… دون أن نقتل الأمل.
وأن ننتظر… دون أن نموت مؤجلين.

البحث عن "النصف الآخر": نقص أم فطرة؟

أكثر أشكال الانتظار شيوعًا هو انتظار الآخر: الحبيب، الشريك، "الذي سيكملني". وهنا ينفجر الجدل الفلسفي. أفلاطون، في أسطورة الكائن المشطور، زرع في وعينا فكرة أننا أنصاف تبحث عن نصفها الضائع. منذ ذلك الحين، أصبح الحب مشروع استعادة، لا اكتشاف.

لكن الفلسفة الحديثة تشكّك في هذه الرواية. هل البحث عن النصف الآخر اعتراف ضمني بأننا ناقصون؟ أم أن الإنسان، مهما اكتمل، يظل كائن علاقة، لا يزدهر إلا في حضور الآخر؟

ربما الخطر ليس في الرغبة في الشراكة، بل في تحويل الآخر إلى حلّ. حين ننتظر شخصًا ليمنح حياتنا معنى، نكون قد أعلنا إفلاسنا الداخلي. أما حين نبحث عن شريك لا ليكملنا، بل ليشاركنا فائضنا ونقصنا معًا، يصبح الحب فعل التقاء لا ترميم.

خاتمة: متى يصبح الانتظار حياة؟

الانتظار يصبح قاتلًا حين يتحوّل إلى بديل عن العيش، وحين نرهن سعادتنا بشرط لم يتحقق بعد. لكنه يصبح جزءًا من الحياة حين نملأه بالوعي، بالفعل، وبالقدرة على أن نقول: "أنا هنا الآن، حتى وأنا أتطلع إلى الأمام".

ربما نحن لا نعيش في المستقبل دائمًا، بل نهرب إليه حين يعجز الحاضر عن احتوائنا. والسؤال الحقيقي ليس: ماذا ننتظر؟
بل: هل نحن أحياء ونحن ننتظر؟

لأن الحياة لا تبدأ حين يأتي ما ننتظره،
بل حين نتوقف عن تعليق وجودنا على وصوله.


أحدث أقدم