مساحة بواسطة: محمد عبد الفتاح
    

العتمة التي نسكنها



الجسد ليس فقط وعاء الروح، بل قيدها الأوّل. هو البيت الذي لم نختره، واللغة التي أُجبرنا على التحدّث بها، والقدر الذي يشيخ معنا دون استئذان. كل ما نسمّيه “حياة” يبدأ وينتهي عند حدوده. نحن لا نعيش داخل الجسد… نحن محبوسون فيه.

منذ اللحظة الأولى، يفرض الجسد سلطته. يطلب الطعام، يصرخ بالألم، يفرض الرغبة، ثم يخذلنا ببطء. الوعي قد يحلم، لكن الجسد يذكّره دائمًا بحدوده: تعب، مرض، لذّة زائلة، ثم انطفاء. وهنا تتكوّن المأساة الفلسفية: نملك وعيًا بلا خلود، وطموحًا بلا جسد قادر على احتماله.

الجسد كخيانة دائمة

في الفلسفة، نحب أن نتحدّث عن الإرادة، لكن الجسد يفضح هشاشتها. نعد أنفسنا بالقوّة، فيسقط الجسد. نخطّط للعظمة، فيتدخّل الألم. نؤمن بالعقل، ثم تخوننا شهوة عابرة.
كان أبو العلاء المعرّي صادقًا حين رأى الجسد عبئًا ورأى الولادة خطيئة غير مقصودة. لم يكن كارهًا للحياة بقدر ما كان واعيًا بثمنها الجسدي.

في الأدب الغربي، يظهر هذا العداء بوضوح. عند كافكا، يتحوّل الجسد إلى محكمة قاسية: يستيقظ الإنسان ليجد نفسه حشرة، بلا سبب، بلا تفسير. الجسد هنا ليس أداة وجود، بل أداة إهانة. أما عند بيكيت، فالأجساد تنتظر… تتحلّل ببطء… تعجز حتى عن الموت.

الجسد والسلطة: حين يصبح اللحم سياسة

الجسد ليس ملك صاحبه كما نتوهّم.
السلطة تكتب قوانينها عليه:
– جسد يُعاقَب
– جسد يُراقَب
– جسد يُستَغل
– جسد يُقاس بمعايير القبول والرفض

هذا ما كشفه ميشيل فوكو بوضوح مرعب: الجسد هو الهدف الأوّل لكل نظام قمعي.
وفي الأدب العربي، نرى ذلك في أجساد مسحوقة:
أجساد نجيب محفوظ المنهكة في الأزقّة،
وأجساد عبد الرحمن منيف التي تحترق في صمت النفط والمنفى،
وأجساد النساء عند نوال السعداوي، حيث يتحوّل الجسد إلى ساحة حرب أخلاقية واجتماعية.

هنا، الجسد لا يعيش… بل يُدار.

الجسد والرغبة: اللذة كفخ وجودي

الرغبة وعدٌ كاذب.
توهمنا بأن الجسد سيمنحنا الامتلاء، لكنه يتركنا أكثر فراغًا. كل لذّة قصيرة، وكل شهوة تلد شهوة أخرى. هكذا يصبح الجسد ماكينة نقص لا تشبع.

قال سارتر إن الجسد يجعلنا مرئيين للآخر، ويحوّلنا إلى موضوع. نحن لا نخجل لأننا نخطئ، بل لأن أجسادنا تُرى، تُقيَّم، تُشتهى، أو تُرفض.
وفي الشعر العربي الحديث، تظهر هذه اللعنة بوضوح: الجسد مرغوب ومحرَّم في آن واحد، محبوب ومُدان، مقدّس ومدنّس في نفس اللحظة.

الجسد والزمن: العدو الذي لا يُهزم

أقسى ما في الجسد أنه يشيخ.
ليس الشيخوخة فكرة، بل تجربة جسدية قاسية: ذاكرة أبطأ، رغبة أضعف، وجسد لم يعد يطيع. هنا يفهم الإنسان معنى الزمن ليس كفلسفة، بل كخسارة يومية.

كان محمود درويش يدرك ذلك جيدًا حين كتب جسده كقصيدة أخيرة، كشيء ينهار بينما اللغة تحاول إنقاذه.
الجسد يذكّرنا بالحقيقة التي نحاول الهروب منها: نحن مؤقّتون، مهما بدونا أحياء.

الجسد والموت: الحقيقة النهائية

الموت ليس فكرة مرعبة… تحلّل الجسد هو المرعب.
الفناء لا يأتي دفعة واحدة، بل يبدأ ببطء: تعب، مرض، ضعف، ثم غياب. الجسد لا يموت فجأة، بل يخذلنا تدريجيًا.

لهذا كتب الأدب كثيرًا عن الجسد المحتضر، أكثر مما كتب عن الروح الخالدة. لأن الجسد هو الدليل الوحيد على أن النهاية حقيقية.

خاتمة: العيش رغم الجسد

ورغم كل هذا السواد، لا مفرّ. لا خلاص خارج الجسد، ولا معنى خارجه.
نحن محكومون بأن نحب عبره، ونتألّم عبره، ونفشل عبره، ونقاوم عبره.

الجسد ليس عدونا، بل شرط مأساتنا الإنسانية.
نحن لسنا كائنات تسعى إلى الكمال، بل أجساد واعية تعرف أنها ستنهار، ومع ذلك تُصرّ على أن تعيش.

وهذا الإصرار، في حدّ ذاته، هو أصدق تعريف للحياة.
أحدث أقدم