مساحة بواسطة: محمد عبد الفتاح
    

الهوية والشعور: رقصة الكينونة في مسرح الوجدان



لطالما سعت الفلسفة التقليدية إلى تعريف الهوية من خلال "الثبات". قيل إنك أنت هو أنت لأنك تملك "جوهراً" لا يتغير، أو ذاكرة تربط ماضيك بحاضرك. ولكن، حين نغوص في أعماق التجربة الإنسانية، نجد أن هذا التعريف ينهار أمام سطوة الشعور. فهل نحن "عقول" تفكر كما اقترح ديكارت، أم نحن "كتل من المشاعر" تتشكل وتتشظى مع كل تجربة؟

الكوجيتو الشعوري: "أنا أشعر.. إذن أنا كائن"

إذا كان التفكير يمنحنا اليقين بوجودنا المنطقي، فإن الشعور هو الذي يمنحنا اليقين بوجودنا الحي. الهوية بدون شعور هي مجرد ملف إداري، مجموعة من البيانات (الاسم، العمر، المهنة). لكن "الأنا" الحقيقية تسكن في المسافة بين الحدث ورد الفعل العاطفي تجاهه.
نحن لا نعرف أنفسنا من خلال ما نفعله فحسب، بل من خلال كيفية تأثرنا بما يحدث. إن قدرتنا على الشعور بالألم، والبهجة، والاغتراب، هي التي ترسم حدود هويتنا. فالإنسان الذي يتغير شعوره تجاه "قيمه القديمة" يشعر حرفياً بأنه أصبح "شخصاً آخر". هنا، يصبح الشعور هو "البوصلة الأنطولوجية" (الوجودية) التي تخبرنا من نحن الآن.

سيولة الهوية وثبات الشعور

ثمة مفارقة غريبة: المشاعر متغيرة بطبعها، ومع ذلك فهي التي تمنحنا شعوراً بالاستمرارية.
"نحن لا نستحم في نهر الشعور مرتين"
عندما تشعر بالحزن، فإن هذا الحزن يلون هويتك بالكامل في تلك اللحظة. أنت "الحزين". لكن عندما يتبدد الحزن، هل تظل "أنت"؟ الفلسفة الوجودية تقترح أن الهوية ليست "صخرة" نرتكز عليها، بل هي "نغمة" تتألف من تتابع المشاعر. نحن مشروع مستمر، وما يربط أجزاء هذا المشروع ليس المنطق، بل الخيط العاطفي الذي يجعلنا نتذكر كيف "شعرنا" في مواقف معينة، أكثر مما نتذكر "ماذا حدث" بالضبط.

الشعور كمرآة للاغتراب

أحياناً، يحدث انفصال بين الهوية والشعور؛ نؤدي أدواراً اجتماعية (هوية مفروضة) بينما نشعر بداخلنا بشيء مختلف تماماً. هذا هو الاغتراب. عندما يتوقف شعورك عن التصديق على أفعالك، تبدأ هويتك بالتآكل.
في هذه الحالة، يصبح "الشعور" هو الحقيقة الوحيدة الصادقة، بينما تصبح "الهوية" مجرد قناع. ومن هنا تنبع أهمية المصالحة مع الوجدان؛ فالهوية الحقيقية لا تتحقق إلا عندما يصبح ما نشعر به متسقاً مع ما نمثله أمام العالم.

الخلاصة

الهوية ليست كياناً مكتملاً نصل إليه، بل هي صدى لمشاعرنا العميقة تجاه الوجود. نحن لسنا مجرد مراقبين للحياة، بل نحن "المادة" التي تتأثر بها. إن ذواتنا تُبنى من طين التجارب التي تركت فينا أثراً شعورياً لا يُمحى.

سؤال فلسفي لك: إذا استيقظت يوماً ووجدت أن كل ذكرياتك موجودة، لكنك فقدت القدرة على "الشعور" بأي عاطفة تجاهها.. هل ستظل أنت نفس الشخص؟
أحدث أقدم