مساحة بواسطة: محمد عبد الفتاح
    

جناية الوجود: هل نُنجب حباً في أطفالنا أم حباً في أنفسنا؟



نحتفل بمولد طفل جديد بالزغاريد والتهاني، نرى في عينيه امتداداً لنا وأملاً للمستقبل. لكن، بعيداً عن هذه المشاعر الفطرية الدافئة، وفي الزوايا الأكثر عتمة من الفكر الإنساني، يتساءل الفلاسفة سؤالاً قد يبدو للوهلة الأولى صادماً، بل ومرعباً: هل كان استحضار هذا الكائن إلى الوجود "خيراً" حقاً؟ أم أنه توريط لروح بريئة في معاناة لم تخترها؟

عقد لم نوقعه: معضلة الموافقة

لعل الحجة الأقوى التي يطرحها أنصار "اللا إنجابية" (Anti-natalism) تتمحور حول فكرة "الموافقة المسبقة". الحياة، بكل ما تحمله من أعباء، أمراض، خيبات، وحتمية الموت، هي صفقة معقدة وشاقة. من وجهة النظر الراديكالية، يُنظر إلى الإنجاب على أنه فرض لهذه الصفقة على شخص آخر دون استشارته.
نحن نعتبر إجبار شخص بالغ على فعل شيء بسيط دون موافقته انتهاكاً لحريته، فكيف بقرار مصيري كـ "الوجود" بحد ذاته؟ هل يحق لنا أن نقرر نيابة عن كائن آخر أن يخوض تجربة الحياة الشاقة؟

وهم الإيثار: هل الإنجاب "أنانية" مقنعة؟

عندما نسأل الآباء: "لماذا أنجبتم؟"، تتراوح الإجابات غالباً بين: "أريد من يحمل اسمي"، "أريد سنداً في شيخوختي"، أو "لترميم علاقتنا الزوجية"، أو حتى لمجرد "الاستمتاع بمشاعر الأمومة والأبوة".
هنا، يحلل بعض المفكرين الدوافع النفسية للإنجاب ويشيرون إلى نقطة شائكة: نحن لا ننجب "من أجل" الطفل، لأن الطفل لم يكن موجوداً أصلاً ليحتاج إلى الوجود. نحن ننجب لسد فجواتنا العاطفية، البيولوجية، أو الاجتماعية.
إذاً، هل الحب الذي نمنحه لأطفالنا لاحقاً هو في جوهره محاولة للتعويض عن "الذنب" (اللاواعي) لجلبهم إلى عالم مليء بالألم؟ وهل الإنجاب هو الفعل الأكثر "أنانية" الذي نغلفه بغلاف "التضحية"؟

المقامرة بحياة الآخرين

يجادل الفيلسوف ديفيد بيناتار بفكره القائل بأن الحياة تحتوي دائماً على قدر من المعاناة (مرض، فقد، حزن)، بينما "العدم" يخلو تماماً من المعاناة. وعليه، فإن الوجود يحمل مخاطرة، بينما اللاوجود هو "أمان" مطلق.
عندما ننجب، نحن نقوم بمقامرة ضخمة. قد يكون الطفل سعيداً، وقد يكون تعيساً، مريضاً، أو مكتئباً. السؤال الفلسفي المطروح هنا: هل نملك الحق الأخلاقي في اللعب بالنرد بمصير إنسان آخر، معتمدين فقط على "أملنا" بأن تكون حياته جيدة؟

أبي جنا عليّ: دعوى "الحياة الخاطئة" (Wrongful Life)

لعل أكثر النقاط إثارة للجدل هي المفهوم القانوني والأخلاقي المعروف بـ "الحياة الخاطئة". يناقش بعض المنظرين الأخلاقيين فكرة جريئة: هل من حق الإنسان أن يلوم والديه لأنهما أوجداه؟
في عالم مثقل بالحروب، التغير المناخي، والتنافس الرأسمالي المتوحش، قد يشعر المرء بأنه أُلقي به في جحيم لا يطاق. وهنا يتردد صدى بيت الشعر الشهير لأبي العلاء المعري، الذي طلب أن يُكتب على قبره:
"هذا جناه أبي عليَّ... وما جنيت على أحد"
المعري، الذي اختار عدم الإنجاب، رأى في ذلك قمة الرحمة والشفقة بالأبناء الذين لم يولدوا. فهل الامتناع عن الإنجاب هو أقصى درجات الحب، لأنه يجنب الأحباء المحتملين ألم الوجود؟

خاتمة مفتوحة

إن طرح هذه التساؤلات لا يهدف بالضرورة إلى الدعوة لانقراض البشرية، بل يهدف إلى زعزعة "المسلّمات" وتحويل الإنجاب من فعل بيولوجي آلي، إلى قرار فلسفي وأخلاقي مرعب في ثقله.
يبقى السؤال معلقاً: هل نحن نمنح الحياة هديةً، أم نمرر عبئاً ومسؤولية عجزنا عن حملها وحدنا؟
أحدث أقدم